بسم الله الرحمن الرحيــــــم
ألسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فصّل بن القيم رحمه الله تعالى أسباب الصبر عن المعصية وبرغم طول
الموضوع مع الإختصار فإنه والله عظيم الفائدة بديع التفصيل بليغ ، فلابن
القيم رحمه الله موهبة كبيرة في استخراج الفوائد وتفصيلها وفي تشخيص
مواضع العلل والخلل وقدرة كبيرة في وصف العلاج من كتاب الله وسنة نبيه
عليه الصلاة والسلام . وانظر فقد تكون أحوالك شبيهة بالمحتوى فتستفيد
من نصحه أو تزداد خيرا .
قال رحمه الله في أسباب الصبر عن المعصية:
ألسبب الأول: علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها ، وأن الله إنما حرمها ونهى
عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل كما يحمي الوالد الشفيق ولده
عما يضره، وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ولو لم يعلق عليها
وعيد العذاب .
السبب الثاني : ألحياء من الله سبحانه . فإن العبد متى علم بنظره إليه
ومقامه عليه وأنه بمرأى منه ومسمع وكان { حيا } حييّا - استحى من
ربه ان يتعرض لمساخطه .
ألسبب الثالث : مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك ، فإن الذنوب تزيل ..
النعم ولابد ، فما أذنب عبد ذنبا إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك
الذنب ، فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلها ، وإن أصر لم ترجع إليه ، ولا
تزال الذنوب تزيل عنه نعمة نعمة حتى تسلبه النعم كلها ، قال تعالى
( إن الله لا يُغير ما بِقَومٍ حتى يُغَيروا ما بأنفسِهِم ) الرعد / وأعظم ...
النعم الإيمان ، وذنب الزنا والسرقة وشرب الخمر وانتهاب النهبة يزيلها
ويسلبها . وقال بعض السلف : أذنبتُ ذنبا فحُرمتُ قيام الليل سنة ...
وقال آخر : اذنبتُ ذنبا فحُرمتُ فهم القرآن .
وفي مثل هذا قيل : إذا كنتَ في نعمة فارعها .. فإن المعاصي تُزيل
النعمِ .
وبالجملة فإن المعاصي نار النعم تأكلها كما تأكل النار الحطب عياذا بالله
من زوال نعمته وتحويل عافيته .
ألسبب الرابع : خوف الله وخشية عقابه ، وهذا إنما يثبت بتصديقه في
وعده ووعيده والإيمان به وبكتابه وبرسوله . وهذا السبب يقوى بالعلم
واليقين ويضعف بضعفهما ، قال تعالى ( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ )
وقال بعض السلف : كفى بخشية الله علما وبالإغترار جهلا .
ألسبب الخامس : محبة الله سبحانه وهي من أقوى الأسباب في الصبر
عن مخالفته ومعاصيه . فإن المحب لمن يحب مطيع ، وكلما قوي سلطان
المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى ، وإنما تصدر
المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها وفرق بين من يحمله على
ترك معصية سيده خوفه سوطه وعقوبته ، وبين من يحمله على ذلك حبه
لسيده ، وفي هذا قال عمر : ( نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه )
يعني أنه لو لم يخف من الله لكان في قلبه من محبة الله وإجلاله مايمنعه ..
من معصيته .
فالمحب الصادق عليه رقيب من محبوبه يرعى قلبه وجوارحه وعلامة صدق
المحبة شهود هذا الرقيب ودوامه .
وههنا لطيفة يجب التنبيه لها : وهي أن المحبة المجردة لاتوجب هذا الأثر
مالم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه ، فإذا قارنها بالإجلال والتعظيم أوجبت
هذا الحياء والطاعة ، وإلاّ فالمحبة الخالية عنهما إنما توجب نوع أنس وانبساط
وتذكر واشتياق ، ولهذا يتخلف عنها أثرها وموجبها ، ويفتش العبد قلبه فيرى
فيه نوع محبة لله ولكن لاتحمله على ترك معاصيه ، وسبب ذلك تجردها عن
الإجلال والتعظيم ، فما عمر القلب شيء كالمحبة المقترنة بإجلال الله وتعظيمه
وتلك من أفضل مواهب الله لعبده أو أفضلها ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
ألسبب السادس : شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتها وحميتها أن تختار
الأسباب التي تحطها وتضع قدرها ، وتخفض منزلتها وتحقرها ، وتسوي بينها
وبين السفلة .
السبب السابع : قوة العلم بسوء عاقبة المعصية ، وقبح أثرها والضرر الناشىء
منها : سواد الوجه ، ظلمة القلب ، وضيقه وغمه ، وحزنه وألمه ، وانحصاره وشدة
قلقه واضطرابه ، وتمزق شمله ، وضعفه عن مقاومة عدوه ، وتعريه من زينته ،
بالثواب الذي جمله الله وزينه به ، والعسرة التي تناله ، والقسوة والحيرة في
أمره ، وتخلي وليه وناصره عنه ، وتولي عدوه المبين له ، وتواري العلم الذي
كان مستعدا له عنه ، ونسيان ماكان حاصلا له أو ضعفه ولابد ، ومرضه الذي
إذا استحكم به فهو الموت ولابد ، فإن الذنوب تميت القلوب ، ومنها : ذله بعد عز
ومنها : أن يصير أسيرا في يد أعدائه بعد أن كان ملكا متصرفا يخافه أعداؤه
ومنها : أن يضيع تأثيره فلا يبقى له نفوذ في رعيته ولا في الخارج ،
فلا رعيته
تطيعه إذا أمرها ، ولا ينفذ في غيرهم ، ومنها : زوال أمنه وتبدله به مخافة فأخوف
الناس أشدهم إساءة ، ومنها : زوال الأنس والإستبدال به وحشة ، وكلما ازداد
إساءة ازداد وحشة ، ومنها : زوال الرضى واستبداله بالسخط ، ومنها : زوال الطمأنينة
بالله والسكون إليه والإيواء عنده واستبدال الطرد والبعد منه ، ومنها : وقوعه في
بئر الحسرات ، فلايزال في حسرة دائمة كلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرها
إن لم تقض منها وطرا أو إلى غيرها إن قضى وطره منها وما يعجز عنه من ذلك أضعاف
أضعاف مايقدر عليه وكلما اشتد نزوعه وعرف عجزه اشتدت حسرته وحزنه .
فيالها من نار قد عذب بها القلب في هذه الدار قبل نار الله التي تطلع على الأفئدة
ومنها : فقره بعد غناه فإنه كان غنيا بما معه من رأس مال الإيمان وهو يتجر به ويربح
الأرباح الكثيرة فإذا سُلب رأس ماله أصبح فقيرا معدما فإما أن يسعى بتحصيل رأس
مال آخر بالتوبة النصوح والجد والتشمير وإلا ، فقد فاته ربح كثير بما أضاعه من رأس
ماله ، ومنها : نقصان رزقه ، فإن العبد يحرم الرزق بالذنب ، ومنها : ضعف بدنه ،
ومنها : زوال المهابة والحلاوة التي لبسها بالطاعة فتبدل بها مهانة وحقارة ، ومنها:
حصول البغضة والنفرة منه في قلوب الناس ، ومنها : ضياع أعز الأشياء عليه وأنفسها
وأعلاها ، ومنها : طمع عدوه فيه وظفره به ، ومنها : الطبع والرين على قلبه ، ومنها :
أن يحرم حلاوة الطاعة ، ومنها : إعراض الله وملائكته وعباده عنه ، ومنها : أن الذنب
يستدعي ذنبا آخر ، ومنها : علمه بفوات ما هو أحب إليه وخير له منها من جنسها ومن
غيره ، ومنها : خروجه من حصن الله الذي لاضيعة على من دخله .
وبالجملة فآثار المعصية أكثر من أن يحيط بها العبد( قلتُ وسأختصر لطول التفصيل فيها )
ألسبب الثامن : قصر الأمل ، وعلمه بسرعة انتقاله وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع
على الخروج منها أو كراكب قال في ظل شجرة ثم سار وتركها فهو لعلمه بقلة مقامه
وسرعة انتقاله حريص على ترك ما يثقله حمله ويضره ولاينفعه ، حريص على الإنتقال
بخير مابحضرته فليس للعبد أنفع من قصر الأمل ولا أضر من التسويف وطول الأمل .
ألسبب التاسع : مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه
بالناس فإنما قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات فإنها تطلب لها
مصرفا فيضيق عليها المباح فتتعداه إلى الحرام ومن أعظم الأشياء ضررا على العبد
بطالته وفراغه فإن النفس لاتقعد فارغة ، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما
يضره ولابد .
ألسبب العاشر : وهو الجامع لهذه الأسباب كلها ، ثبات شجرة الإيمان في القلب
فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه ، فكلما كان إيمانه أقوى كان
صبره أتم وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر . إنتهى كلامه رحمه الله
أللهم صلي وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه
والحمد لله رب العالمين